فصل: تفسير الآية رقم (46)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد ***


تفسير الآية رقم ‏[‏35‏]‏

‏{‏اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ‏(‏35‏)‏‏}‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏الله نورُ السموات والأرض‏}‏ أي‏:‏ منور أهلهما ‏[‏بنور الإسلام والإيمان؛ لأهل الإيمان‏]‏، وبنور الإحسان؛ لأهل الإحسان، فحقيقة النور‏:‏ هو الذي تنكشف به الأشياء على ما هي عليه، حسية أو معنوية، والمراد هنا‏:‏ المعنوية؛ بدليل قوله ‏{‏يهدي الله لنُوره من يشاء‏}‏، فإن انكشف به أحكام العبودية، باعتبار المعاملة الظاهرة، يُسمّى‏:‏ نُورُ الإسلام، وإن انكشف به أوصاف الذات العلية وكمالاتها، من طريق البرهان، يُسمى‏:‏ نُور الإيمان، وإن انكشف به حقيقة الذات وأسرارها، من طريق العيان، يُسمى‏:‏ نور الإحسان‏.‏ فالأول‏:‏ يشبه نور النجوم، والثاني‏:‏ نور القمر، والثالث نور الشمس، ولذلك تقول الصوفية‏:‏ نجوم الإسلام، وقمر الإيمان، وشمس العرفان‏.‏

ثم ضرب المثل لذلك النور، حين يقذفه في قلب المؤمن، فقال ‏{‏مَثَلُ نُورِهِ‏}‏ أي‏:‏ صفة نوره العجيبة في قلب المؤمن- كما هي قراءة ابن مسعود- ‏{‏كمشكاةٍ‏}‏ أي‏:‏ كَصِفَةِ مِشْكَاةٍ، وهي الكُوَّةُ في الجدار غير النافذة؛ لأن المصباح فيها يكون نوره مجموعاً، فيكون أزهر وأنور، ‏{‏فيها مصباح‏}‏ أي‏:‏ سراج ضخم ثاقب، ‏{‏المصباحُ في زجاجة‏}‏ أي‏:‏ في قنديل من زجاج صافٍ أزهر، ‏{‏الزجاجةُ‏}‏ من شدة صفائها ‏{‏كأنها كوكب دُرِّيِّ‏}‏؛ بضم الدال وتشديد الراء، منسوب إلى الدر؛ لفرط ضيائه وصفائه، وبالكسر والهمز‏:‏ «أبو عمرو»؛ على أنه يدْرأ الظلام بضوئه‏.‏ وبالضم والهمز‏:‏ أبو بكر وحمزة، شبهه بأحد الكواكب الدراري، كالمشتري والزهرة ونحوهما‏.‏ ‏{‏تَوَقَدُ‏}‏ بالتخفيف والتأنيث، أي‏:‏ الزجاجة، أو ‏{‏يُوقَدُ‏}‏ بالتخفيف والغيب، أو‏:‏ ‏{‏تَوَقَّدَ‏}‏ بالتشديد، أي‏:‏ المصباح ‏{‏من شجرةٍ‏}‏ أي من زيت شجرة الزيتون، أي‏:‏ رويت فتيلته من زيت ‏{‏شجرةٍ مباركةٍ‏}‏؛ كثيرة المنافع، أو‏:‏ لأنها تنبت في الأرض التي بارك فيها للعالمين، وهي الشام، وقيل‏:‏ بارك فيها سبعون نبياً، منهم إبراهيم عليه السلام‏.‏

‏{‏زيتونةٍ‏}‏‏:‏ بدلٌ من ‏{‏شجرة‏}‏، من نعتها ‏{‏لا شرقيةٍ ولا غريبةٍ‏}‏ أي‏:‏ ليست شرقية فقط، لا تُصيبها الشمس إلا في حالة الشروق، ولا غربية، لا تصيبها إلا في حال الغروب، بل هي شرقية غربية، تصيبها الشمس بالغداة والعشي، فهو أَنْضَرُ لها، وأوجود لزيتونها‏.‏ وقيل‏:‏ ليست من المشرق ولا من المغرب، بل في الوسط منه، وهو الشام، وأجودُ الزيتونِ زيتون الشام‏.‏

‏{‏يكادُ زيتُها يٌضيءُ ولو لم تمسسه نارٌ‏}‏؛ هو في الصفاء والإنارة بحيث يكاد يضيء بنفسه من غير مسَاسٍ نَارٍ أصلاً‏.‏ ‏{‏نورٌ على نورٍ‏}‏ أي‏:‏ نور المصباح متضاعف على نور الزيت الصافي، فهذا مثال النور الذي يقذفه الله في قلب المؤمن؛ فالمشكاة هو الصدر، والمصباح نور الإيمان أو الإسلام أو الإحسان، على ما تقدم، والزجاجة هو القلب الصافي، ولذلك شبهه بالكوكب الدُرّيّ، والزيت هو العِلْمُ النافع الذي يقوي اليقين‏.‏ ولذلك وصفه بالصفاء والإنارة‏.‏

يكاد صاحبه تشرق عليه أنوار الحقائق، ولو لم يمسسه علمها‏.‏ ‏{‏نورٌ على نورٍ‏}‏ أي نور الإيمان مُضَافٌ إلى نور الإسلام، أو نور الإحسان مضاف إلى نور الإيمان والإسلام‏.‏

‏{‏يهدي الله لنوره‏}‏ أي‏:‏ لهذا لنور الباهر ‏{‏من يشاء‏}‏ من عباده؛ إما بإلهام أو بواسطة تعليم‏.‏ وفيه إيذان بأن مناط هذه الهداية إنما هي بمشيئته تعالى، وأن الأسباب لا تأثير لها‏.‏ ‏{‏ويضرب الله الأمثالَ للناس‏}‏؛ تقريباً للفهم، لأنه إبراز للمعقول في هيئة المحسوس ‏{‏والله بكل شيءٍعليمٌ‏}‏، معقولاً كان أو محسوساً، فيبين الأشياء بما يمكن أن تُعْلَم به‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ أعلم أن الكون كله من عرشه إلى فرشه قطْعةٌ من نور الحق، وسر من أسرار ذاته، مُلْكٌ، وباطنه ملكوت فائض من بحر الجبروت، فالكائنات كلها‏:‏ الله نُورُها وسرُّها، وهو القائم بها‏.‏ ولا يفهم هذا إلا أهل الفناء من العارفين بالله، وحسبُ من لم يبلغ مقامهم التسليم لما رمزوا إليه، وتحققوه ذوقاً وكشفاً‏.‏

ثم ضرب الحقُّ تعالى مثلاً لنوره الفائض من بحر جبروته، فقال‏:‏ ‏{‏مثل نوره‏}‏ الظاهر، الذي تجلى به في عالم الشهادة، ‏{‏كمشكاة فيها مصباح‏}‏ أي‏:‏ كطاقة انفتحت من بحر اللّطَافَةِ الكَنْزِيَّةِ، خرج منها نور كثيف كالمصباح، فالكون كله مِصْبَاحُ نورٍ، انفجر من نور النور، ومن ذلك المصباح تفرعت الكائنات، فهي كلها نور فائض من بحر نوره اللطيف، ثم جعل الحق تعالى يصف ذلك المصباح في توقده وتوهجه بقوله‏:‏ ‏{‏المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دُري‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ إلخ‏.‏ فالآية كلها من تتمه التمثيل‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولو لم تمسسه نار‏}‏ قيل‏:‏ الإشارة فيه إلى استغناء العبد في تلك الحالة عن الاستمداد إلا من رب العزة، فيستغني عن الوسائط‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏نورٌ على نور‏}‏ أي‏:‏ نور ملكوته على نور جبروته، ‏{‏يهدي الله لنوره‏}‏ أي‏:‏ لشهود نوره، أو لمعرفة نوره، ‏{‏من يشاء‏}‏ من خواص أحبابه، كأنبيائه وأوليائه، فمن لم يشهد هذا النور، ولم يعرفه، لا خصوصية له؛ يتميز بها عن العوام، فهو من عامة أهل اليمين، ولو كثر علمه وعمله؛ إذ لا عبرة بالعلم والعمل مع الحِجَاب‏.‏ وفي الحكَم‏:‏ «الكائن في الكون، ولم تفتح له ميادين الغيوب، مسجون بمحيطاته، محصور في هيكل ذاته»، والمحجوب برؤية الأكوان من جملة العوام عند أهل العيان، ينسحب عليه معنى المثال الآتي في ضد هذا بقوله‏:‏ ‏(‏أو كظلمات‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ إلخ‏.‏

وفي الحِكَم‏:‏ «الكون كله ظلمة، وإنما أناره ظهورُ الحَقِّ فيه، فمن رأى الكون ولم يشهده فيه، أو عنده، أو قبله أو بعده، فقد أعوزه وجود الأنوار، وحجبت عنه شموس المعارف بسُحب الآثار»‏.‏ فالكون عند أهل العيان كله نور، وعند أهل الحجاب كله ظلمة، وهو محيط بهم، فالظلمة محيطة بهم، وقد ألف الغزالي في هذه الآية كتابه‏:‏ ‏(‏مشكاة الأنوار‏)‏، وكلامه فيه يدور على أن معنى اسمه تعالى «النور»‏:‏ يرجع إلى ما ثبتت به الأشياء وظهرت من العدم، ولذلك قال قائلهم‏:‏

فَالنُّورُ يُظْهِرُ مَا تَرَى مِنْ صُورَةٍ *** وبه ظهور الكَائِنَاتِ بِلاَ امْتِرَاءِ

وفي لطائف المنن‏:‏ الله نور السموات والأرض؛ نور سموات الأرواح بمشاهدته، ونور أرض النفوس بمطالعته وخدمته، وجعل قلوب أوليائه مَجْلاَةً لذاته ولظهور صفاته، أظهرهم ليظهر فيهم خصوصاً، وهو الظاهر في كل شيء عموماً، ظهر فيهم بأنواره وأسراره، كما ظهر فيهم، وفيما عداهم بقدرته واقتداره‏.‏ ه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏36- 38‏]‏

‏{‏فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ ‏(‏36‏)‏ رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ ‏(‏37‏)‏ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ‏(‏38‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏(‏في بيوت‏)‏‏:‏ يتعلق بمشكاة، أي‏:‏ كائنة في بيوت، أو توقد، أو بيسبح، أي‏:‏ يسبح له رجال في بيوت، وفيه تكرير؛ لزيادة التأكيد، نحو‏:‏ زيد في الدار جالس فيها، أو بمحذوف، أي‏:‏ سبّحوا في بيوت‏.‏ و‏(‏أَذِنَ‏)‏‏:‏ نَعْتٌ له‏.‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ وذلك النور الذي في المشكاة يكون ‏{‏في بيوتٍ أَذن الله أن ترفع‏}‏، وهي المساجد والزوايا المُعدَّة لذكر الله والصلاة وتلاوة القرآن‏.‏ ورفعها‏:‏ تعظيمها‏.‏ أي‏:‏ التي أمر الله بتعظيمها؛ كتطهيرها من الخبث، وتنقيتها من القذى، وتعليق القناديل ونصب الشموع، ويزاد التعظيم في شهر رمضان‏.‏ ومن تعظيمها‏:‏ غلقها في غير أوقات الصلاة، وقيل المراد برفعها‏:‏ بناؤها، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏‏.‏‏.‏‏.‏ بناها رَفَعَ‏.‏‏.‏‏.‏ سَمْكَهَاَ‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 27و28‏]‏ ‏{‏وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ القواعد مِنَ البيت‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 127‏]‏، والأول أصح‏.‏

‏{‏و‏}‏ أَذِنَ أيضاً أن ‏{‏يُذْكَرَ فيها اسمُه‏}‏، وهو عام في جميع الذِّكْر، مفرداً أو جماعة، ويدخل فيه تلاوة القرآن‏.‏ ‏{‏يُسَبِّحُ له فيها بالغُدوّ والآصال‏}‏ أي‏:‏ يصلي له فيها بالغداة‏:‏ صلاة الفجر، والآصال‏:‏ صلاة الظهر والعصر والعِشَاءين‏.‏ وإنما وَحَّد الغدو؛ لأن صلاته صلاة واحدة، وفي الآصال صلوات، وهو جمع أصيل، وفاعل «يُسَبِّحُ»‏:‏ رجال‏.‏

ومن قرأ بفتح الباء، فأسنده إلى أحد الظروف الثلاثة، أعني‏:‏ ‏(‏له فيها بالغدو‏)‏‏.‏ و«رجال»‏:‏ مرفوع بمحذوف، دل عليه ‏{‏يُسبح‏}‏ أي‏:‏ يسبحه ‏{‏رجالٌ لا تُلهيهم‏}‏‏:‏ لا تشغلهم ‏{‏تجارةٌ‏}‏ في السفر، ‏{‏ولا بيعٌ‏}‏ في الحضر، ‏{‏عن ذكر الله‏}‏ باللسان والقلب، وقيل‏:‏ التجارة‏:‏ الشراء، أي‏:‏ لا يشغلهم شراء ولا بيع عن ذكر الله، والجملة صفة لرجال، مؤكدة لما أفاده التنكير من الفخامة، مفيدة لكمال تَبَتُّلِهِمْ إلى الله تعالى، واستغراقهم فيما حكى عنهم من التسبيح من غير صارف يلويهم ولا عاطف يثنيهم‏.‏

وتخصيصُ التِّجَارَةِ بالذكر؛ لكونها أقوى الصوارف عندهم وأشهرها، أي‏:‏ لا يشغلهم نوع من أنواع التجارة، ولا فرد من أفراد البياعات، وإن كان في غاية الربح‏.‏

وإفراده بالذكر، مع اندراجه تحت التجارة؛ لأنه ألهى؛ لأن ربحه متيقن ناجز في الغالب، وما عداه متوقع في ثاني الحال‏.‏

‏{‏و‏}‏ لا يشغلهم ذلك أيضاً عن ‏{‏إِقامِ الصلاةِ‏}‏ أي‏:‏ إقامتها لمواقيتها من غير تأخير، وأصله‏:‏ وإقامة، فأسقطت التاء المعوضة عن العين الساقطة بالإعلال، وعوض عنها الإضافة، فأقيمت الإضافة مقام التاء، ‏{‏وإِيتاء الزكاة‏}‏ أي‏:‏ وعن إيتاء الزكاة، وذكرها، وإن لم يكن مما تفعل في البيوت، لكونها قرينتها لا تفارق إقامة الصلاة في عامة المواضع، مع ما فيه من التنبيه على أن مَحَاسِنَ أعمالهم غَيْرُ مُنْحَصِرَةٍ فيما يقع في المساجد‏.‏ والمعنى‏:‏ لا تجارة لهم حتى تلهيهم، أو يبيعون ويشترون ويذكرون الله مع ذلك، لا يشغلهم عن ذكر الله شيء، وإذا حضرت الصلاة قاموا إليها مسرعين‏.‏

‏{‏يخافون يوماً‏}‏ أي‏:‏ يوم القيامة ‏{‏تتقلَّبُ فيه القلوبُ‏}‏ أي‏:‏ تضطرب وتتغير من الهول والفزع، وتبلغ إلى الحناجر، ‏{‏و‏}‏ تتقلب ‏{‏الأبصارُ‏}‏ بالشخوص أو الزرقة‏.‏ أو تتقلب القلوب إلى الإيمان بعد الكفران، والأبصار إلى العيان بعد النكران، كقوله‏:‏ ‏{‏فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَآءَكَ فَبَصَرُكَ اليوم حَدِيدٌ‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 22‏]‏‏.‏

يفعلون ذلك الاستغراق في التسبيح والذكر، مع الخوف؛ ‏{‏ليجزيهم الله أحسنَ ما عَمِلُوا‏}‏ أي‏:‏ أحسن جزاء أعمالهم، حسبما وعدهم بمقابلة حسنة بعشر أمثالها إلى سبع مائة ضعف، ‏{‏ويزيدَهُم من فَضْلِه‏}‏ أي‏:‏ يتفضل عليهم بأشياء وعدهم بها، لم تخطر على بال؛ كالنظر إلى وجهه، وزيادة كشف ذاته، فهو كقوله‏:‏ ‏{‏لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الحسنى وَزِيَادَةٌ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 26‏]‏‏.‏ ‏{‏والله يرزق من يشاء بغير حساب‏}‏ أي‏:‏ يثيب من يشاء ثواباً لا يدخل تحت حساب الخلق، و«مَنْ»‏:‏ واقعة على من ذُكِرَتْ أوصافهم الجميلة، كأنه قيل‏:‏ والله يرزقهم بغير حساب، ووضعه موضع ضميرهم؛ للتنبيه على أن مناط الرزق المذكور مَحْضُ مشيئتِه تعالى، لا أعمالهم المحكية، ويحتمل أن يريد بالرزق ما يرزقهم في الدنيا مما يقوم بأمرهم، حين تَبتَّلُوا إلى العبادة، يرزقهم الله من حيث لا يحتسبون، من غير حَصْرٍ ولا عد‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ البيوت التي أَذِنَ الله أن تُرفع هي القلوب، التي هي معدن الأسرار ومحل مصابيح الأنوار، ورفعها‏:‏ صونها من الأغيار، وتطهيرها من لوث الأكدار، وبُعدها من جيفة الدنيا، التي هي مجمع الخبائث والأشرار، ليُذكَرَ فيها اسم الله، كثيراً، على نعت الحضور والاستهتار، وإنما يمكن ذلك من أهل التجريد والانقطاع إلى الله، الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله، يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب عن حضرة الله، والأبصار عن شهود الله، وذلك بشؤم الغفلة في الدنيا عن الله، والقيام بحقوق الله، ليجزيهم الله أحسن ما عملوا، في جنة الزخارف، ويزيدهم من فضله التَّنَزُّهَ في جنة المعارف‏.‏ والله يرزق من العلوم والمعارف من يشاء بغير حساب‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏39- 40‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآَنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ ‏(‏39‏)‏ أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ ‏(‏40‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ «كسراب»‏:‏ خبر الثاني، وهو‏:‏ ما يُرى في الفلوات من لمعان الشمس وقت الظهيرة، يسرب على وجه الأرض، فَيُظَنُّ أنه ماء يجري‏.‏ و‏(‏بقيعة‏)‏‏:‏ متعلق بمحذوف، صفة لسراب، أي‏:‏ كائن بأرض قيعة، أي‏:‏ منبسطة، و‏(‏سحاب ظلمات‏)‏‏:‏ مَنْ جَرَّها‏:‏ فبالإضافة، ومن رفعها‏:‏ فخبر، أي‏:‏ هي ظلمات‏.‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ في بيان أعمال الكفرة وظلمة قلوبهم، بعد بيان حَالِ المؤمنين وأنوار قلوبهم‏:‏ ‏{‏والذين كفروا أعمالُهم‏}‏ التي هي من أبواب البر، كصلة الرحم، وفك العُنَاةِ، وسقاية الحاج، وعمارة البيت، وإغاثة الملهوف، وَقِرَى الأضياف، ونحوها، مما لَوْ قارنه الإيمان لاستوجب الثواب، مثاله‏:‏ ‏{‏كسراب‏}‏؛ كفضاء ‏(‏بقيعَةٍ‏)‏؛ بأرض منبسطة، ‏{‏يَحْسَبُهُ الظمآنُ ماءً حتى إذا جاءه لم يجِدْه شيئاً‏}‏ أي‏:‏ لم يجده كما ظنه ورجاه، بل خاب مطمعه ومسعاه، ‏{‏ووجدَ الله عنده‏}‏ أي‏:‏ وجد جزاء الله، أو حُكمه، عند عمله، أو عند جزائه، ‏{‏فوفَّاه حسابَه‏}‏ أي‏:‏ أعطاه جزاءه كله وافياً، وإنما وحّد، بعد تقديم الجمع، حملاً على كل واحد من الكفار‏.‏

‏{‏والله سريعُ الحساب‏}‏؛ يحاسب العباد في ساعة؛ لأنه لا يحتاج إلى عد وعقد، ولا يشغله حساب عن حساب، أو قَرِيبٌ حسابُه؛ لأنَّ كل آتٍ قريبٌ‏.‏ شبه ما يعمله الكفرة من البر، الذي يعتقد أنه ينفعه يوم القيامة وينجيه من عذاب الله، ثم يخيب في العاقبة أَملُهُ، ويلقى خلاف ما قدّر، بسراب يراه الكافر بالساهرة، وقد غلبه عطش يوم القيامة، فيحسبه ماء، فيأتيه، فلا يجد ما رجاه، ويجد زبانية الله، فيأخذونه إلى جهنم، فيسقونه الحميم والغساق‏.‏ قيل‏:‏ هم الذين قال الله فيهم‏:‏ ‏{‏عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ‏}‏ ‏[‏الغاشية‏:‏ 3‏]‏، ‏{‏ويَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 104‏]‏‏.‏ قيل‏:‏ نزلت في عتبة بن ربيعة بن أمية، كان ترهب في الجاهلية ولبس المسوح، والتمس الدين، فلما جاء الإسلام كفر‏.‏ ه‏.‏

ثم ضرب مثلاً لأعمالهم في الدنيا، فقال‏:‏ ‏{‏أوْ كظلماتٍ‏}‏، «أو»‏:‏ للتنويع، ‏{‏في بحرٍ لجيِّ‏}‏؛ عميق كثير الماء، منسوب إلى اللج، وهو معظم ماء البحر، ‏{‏يغشاه‏}‏ أي‏:‏ يغشى البحر، أو مَن فيه، أي‏:‏ يعلوه ويغطيه بالكلية، ‏{‏موجٌ‏}‏ هو ما ارتفع من الماء، ‏{‏من فوقه موجٌ‏}‏ أي‏:‏ من فوق الموج موج آخر، ‏{‏من فوقه سَحَابٌ‏}‏؛ من فوق الموج الأعلى سحاب، ‏{‏ظلماتٌ‏}‏ أي‏:‏ هذه ظلمات؛ ظلمة السحاب، وظلمة الأمواج وظلمة البحر، ‏{‏بعضُها فوق بعض‏}‏؛ ظلمة الموج على ظلمة البحر، وظلمة الموج على ظلمة الموج الأسفل، وظلمة السحاب على الموج، وهذا أعظمُ للخوف وأقربُ للعطب، لأنه يغطي النجوم التي يهتدي بها ويشتد معه الريح والمطر، وذلك يؤكد التلف، ‏{‏إذا أخرج يده‏}‏ أي‏:‏ الواقع فيه، أو مَن ابْتُلِيَ بها، ‏{‏لم يكد يراها‏}‏؛ مبالغة في «لم يرها»، أي‏:‏ لم يقرب أن يراها، فضلاً عن أن يراها‏.‏

شبّه أعمالهم، في ظلمتها وسوادها؛ لكونها باطلة، وخلوها عن نور الحق، بظلماتٍ متراكمة من لج البحر والأمواج والسحاب‏.‏

قال ابن جُزَيّ‏:‏ لما ذكر حال المؤمنين عَقَّبَ ذلك بمثالين لأعمال الكفار؛ الأول‏:‏ يقتضي حال أعمالهم في الآخرة، وأنها لا تنفعهم، بل يضمحل ثوابها كما يضمحل السراب‏.‏ والثاني‏:‏ يقتضي حال أعمالهم في الدنيا، وأنها في غاية الفساد والضلال، كالظلمة التي بعضها فوق بعض‏.‏ ثم قال‏:‏ وفي وصف هذه الظلمات مبالغة، كما أن في وصف النور المذكور قبلها مبالغة‏.‏ ه‏.‏ وقوله‏:‏ لما ذكر حال المؤمنين، يعني بقوله‏:‏ ‏{‏رجال لا تلهيهم‏.‏‏.‏‏}‏ إلخ، الله بقوله‏:‏ ‏{‏يهدي الله لنوره من يشاء‏}‏، وقيل‏:‏ كلا المثالين في الآخرة، يخيبون من نفعها، ويخوضون في بحر ظلمتها‏.‏

‏{‏ومن يجعل الله له نوراً‏}‏ في قلبه، من نور توحيده ومعرفته، ‏{‏فما له من نورٍ‏}‏ أي‏:‏ من لم يشأ الله أن يهديه لنوره‏:‏ لم يهتد، وفي الحديث‏:‏ «خلق الله الخلق في ظلمة، ثم رش عليها من نوره، فمن أصابه ذلك النور اهتدى، ومن أخطأه ضل»، وينبغي للقارئ عند هذه الآية أن يقول‏:‏ ‏(‏اللهمَّ اجعلْ في قلبي نوراً، وفي سمعي نوراً، وفي بصري نوراً، وعن يميني نوراً، وعن شمالي نوراً، ومن فوقي نوراً، ومن تحتي نوراً، واجعلني نوراً، وأعظم لي نوراً‏)‏، كما في الحديث في غير هذا المحل‏.‏

الإشارة‏:‏ كل من لم يتحقق بمقام الإخلاص كانت أعماله كسرابٍ بقيعة، يحسبه الظمآنُ ماء، حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً، ووجد الله عنده، فوفاه حسابه، أي‏:‏ يناقشه فيما أراد بعمله، وأهل التوحيد الخاص‏:‏ الوجود كله، عندهم، كالسراب، يحسبه الناظر إليه شيئاً، حتى إذا جاءه بفكرته لم يجده شيئاً، ووجد الله عنده وحده، وفيه يقول الشاعر‏:‏

مَنْ أبْصَرَ الخَلْقَ كالسَّرابِ *** فَقَدْ تَرَقَّى عَن الحِجَابِ

إِلَى وجُودٍ تَرَاهُ رَتْقَاً *** بِلاَ ابتعَادٍ ولا اقْتِرَابِ

ولم تُشاهد به سواه *** هناك يُهْدَى إلى الصَّوَابِ

فلا خِطَاب بِهِ إِلَيْهِ *** ولا مُشير إلى الخِطَابِ

ومثال من عكف على دنياه، واتخذ إلهه هواه، كذي ظلمات في بحر لجي، وهو بحر الهوى، يغشاه موج الجهل والمخالفات، من فوقه موج الحظوظ والشهوات، من فوقه سحاب أثر الكائنات، أو‏:‏ يغشاه موج الغفلات، من فوقه موج العادات، من فوقه سحاب الكائنات، ظلمات بعضها فوق بعض؛ من حب الدنيا، وحب الجاه، وحب الرئاسة، إذا أخرج يد فكرته لم يكد يراها‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ الدنيا كلها بحر لُجَي، والناس مغروقون فيه، إلا مَنْ عَصَمَ الله، وساحله الموت، فمن لعبت به أمواج الهوى والحظوظ، فليأوي إلى سفينة الزهد والورع، وليتمسك برئيس عارف بأهوال البحر، وهم العارفون بالله، فإنه ينجو من أهوالها، ومن أخطأ هذا غرق في تيارها، ولعبت به أمواج حظوظها وشهواتها، فكان من الهالكين، نسأل الله الحفظ بمنِّه وكرمه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏41- 42‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ ‏(‏41‏)‏ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ ‏(‏42‏)‏‏}‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏ألم تَرَ‏}‏ يا محمد، وخصَّه بالخطاب؛ إيذاناً بأنه صلى الله عليه وسلم قد أفاض عليه أعلى مَرَاتِبَ النور وأجلاها، وبيَّن له من أسرار الملكوت أجلهَا وأخفاها، أي‏:‏ ألم تنظر بعين بصيرتك، فتعلم علم اليقين، ‏{‏أن الله يُسبِّح له‏}‏ أي‏:‏ ينزهه على الدَّوَامِ ‏{‏من في السموات والأرض‏}‏؛ من العقلاء وغيرهم، تنزيهاً معنوياً، فإن كلا من الموجودات يدل على وجود صانع واجب الوجود، متصف بصفات الكمال، مقدس عن كل ما لا يليق بعلو شأنه‏.‏ أو تنزيهاً حسياً بلسان المقال، ولكن لا تفقهون تسبيحهم‏.‏ وتخصيص التنزيه بالذكر، مع دلالة ما فيهما على اتصافه تعالى بنعوت الكمال أيضأً؛ لأن مساق الكلام تَقْبيحُ حَالِ الكفرة في إخلالهم بالتنزيه؛ بجعلهم الجمادات شركاء له ودعوى اتخاذه الولد‏.‏

‏{‏و‏}‏ يسبحه ‏{‏الطيرُ‏}‏ حال كونها ‏{‏صافَّاتٍ‏}‏ أي‏:‏ يصففن أجنحتهن في الهواء، وتخصيصها بالذكر، مع اندراجها في جملة ما في الأرض؛ لعدم استمرار قرارها فيها، ولاختصاصها بصنع بارع، وهو اصطفاف أجنحتها في الجو، وتمكينها من الحركة كيف تشاء، وإرشادها إلى كيفية استعمالها بالقبض والبسط، ففي ذلك دلالة واضحة على كمال قدرة الصانع المجيد، وغاية حكمة المبدئ المعيد‏.‏

‏{‏كُلٌّ قد عَلِمَ صلاتَه وتسبيحه‏}‏ أي‏:‏ كل واحد من الأشياء المذكورة قد عَلِمَ الله تعالى صَلاتَهُ، أي‏:‏ دعاءه وخضوعه وتسبيحه‏.‏ أو‏:‏ كلٌّ قد علم في نفسه ما يصدر عنه من صَلاَةٍ وتسبيح، فالضمير‏:‏ ما إليه أو لكلٌ‏.‏ ولا يبعد أن يلهم الله الطيرَ دعاءه وتسبيحه كما ألهمها سائر العلوم الدقيقة التي لا يكاد العقلاء يهتدون إليها‏.‏ ‏{‏والله عليم بما يفعلون‏}‏؛ لا يعزب عن علمه شيء‏.‏

‏{‏ولله ملكُ السموات والأرض‏}‏ لا لغيره؛ لأنه الخالق لهما، ولما فيهما من الذوات، وهو المتصرف فيهما فيهما إيجاداً وَإعْداماً، ‏{‏وإلى الله المصير‏}‏ أي‏:‏ إليه، خَاصَّةً، رجوع الكل بالفناء والبعث لا إلى غيره، وإظهار اسم الجلالة في موضع الإضمار، لتربية المهابة، والإشعار بِعِلِّيّةِ الحُكم‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ ما استقر في السموات السبع والأرضين السبع كله من قَبْضَةِ النُّور الأوَّلِيَّةِ بين حس ومعنى، حسه خاضع لأحكام الربوبية، ومعناه قاهر بسطوات الألوهية، حسه حِكْمةٌ، ومعناه قدرة، حسه مُلْكٌ، ومعناه ملكوت، وهذا معنى قوله‏:‏ ‏{‏الله نورُ السموات والأرض‏}‏، فافهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏43- 44‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ ‏(‏43‏)‏ يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ ‏(‏44‏)‏‏}‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏ألم ترَ أن الله يُزْجِي‏}‏ أي‏:‏ يسوق، برفق وسهولة، ‏{‏سَحَاباً‏}‏‏:‏ جمع سحابة، ‏{‏ثم يُؤلِّف بينه‏}‏ أي‏:‏ يضم بعضه إلى بعض، ‏{‏ثم يجعله رُكاماً‏}‏؛ متراكماً بعضه فوق بعض، ‏{‏فَتَرى الوَدْقَ‏}‏‏:‏ المطر، ‏{‏يخرجُ من خِلالِه‏}‏؛ من فُتُوقِهِ ووسطه، جمع خَلل، كجبال وجبل، وقيل‏:‏ مفرد، كحجاب وحجاز‏.‏

قال القشيري‏:‏ ترتفع بقدرته بُخَارَاتُ البحر، فيتصعد، بتسييره وتقديره، إلى الهواء، وهو السحاب، ثم يديره إلى سَمْتِ يريد أن ينزل به المطر، ثم ينزل ما في السحاب من ماء البحر، قطرة قطرة، ويكون الماء، حين حصوله في بخارات البحر، غير عذب، فيقلبه عذباً، ويَسُحُّهُ السحابُ سَكْباً، فيوصل إلى كلِّ موضع قَدْراً يكون له مُراداً معلوماً، لا بالجهدِ مِنَ المخلوقين يُمْسَكُ عن المواضع الذي عليه ينزله، ولا بالحيلة يُسْتَنْزلُ على المكانِ الذي لا يُمْطِره‏.‏ ه‏.‏ قلت‏:‏ وهذا أحد الأقوال في الحقيقة المطر، والمشهور عند أهل السنة‏:‏ أن الله تعالى يُنْشِىءُ السحاب بقدرته، ويخلق فيه الماء بحكمته، وينزله حيث شاء‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏ويُنزِّل من السماء من جبالٍ فيها من بَرَدٍ‏}‏، «مِنْ» الأولى‏:‏ لابتداء الغاية، والثانية‏:‏ بدل من الأولى، والثالثة‏:‏ لبيان الجنس، أي‏:‏ يُنَزِّل البَرَد، وهو الثلج المكور، من السماء، أي‏:‏ الغمام العلوي، فكل ما علاك سماء، من جبال فيها كائنة من البَرَد، ولا غرابة في أن الله يخلق في السماء جِبَالَ بَرَدٍ كما خلق في الأرض جبال حجر‏.‏

قال ابن جزي‏:‏ قيل‏:‏ إن الجبال هنا حقيقة، وإن الله جعل في السماء جبالاً من بَرَد، وقيل‏:‏ إنه مجاز، كقولك‏:‏ عند فلان جبال من مال أو عِلم، أي‏:‏ هن في الكثرة مثل الجبال‏.‏ ه‏.‏ وأصله لابن عطيه‏.‏ وقال الشيخ أبو زيد الثعالبي‏:‏ حَمْلُ اللفظ على حقيقته أولى، إن لم يمنع من ذلك مانع‏.‏ ه‏.‏ يعني‏:‏ ولا مانع هنا، فيحمل على ظاهره، وإن الله خلق جبال بَرد في السماء‏.‏ وقال الهروي عن ابن عرفة- يعنى اللغوي-‏:‏ سمعت أحمد بن يحيى يقول‏:‏ فيه قولان‏:‏ أحدهما‏:‏ وينزل من السماء بَرَدَاً من جباللافي السماء من برد والآخر‏:‏ وينزل من السماء أمثال الجبال من البَرَد‏.‏ ويقال‏:‏ إنما سمي برَدَاً؛ لأنه يَبْرُدُ وجه الأرض أي‏:‏ يُقشره‏.‏ ه‏.‏

قال البيضاوي‏:‏ إن الأبخرة إذا تصاعدت ولم يتخللها حرارة، فبلغت الطبقة الباردة من الهواء، وقوي البرد هناك، اجتمع وصار سحاباً، فإن لم يشتد البرد تقاطر مطراً، وإن اشتد، فإن وصل إلى الأجزاء البخارية قبل اجتماعها، نزل ثلجاً، وإلاّ نزل بَرَداً، وقد يبرد الهواء برداً مفرطاً فينقبض، وينعقد سحاباً، وينزل منه المطر أو الثلج‏.‏ وكل ذلك لا بد وأن يُسْنَدَ إلى إرادة الواجب الحكيم؛ لقيام الدليل على أنها الموجبة لاختصاص الحوادث بمحالِّها وأوقاتها، وإليه أشار بقوله‏:‏ ‏{‏فيُصيبُ به من يشاء ويصْرِفُهُ عمن يشاء‏}‏ والضمير للبرَد‏.‏

ه‏.‏ أي‏:‏ فيصيب بذلك البَرَد من يشاء أن يصيبه به، فيناله ما ناله من ضرره في بدنه وماله؛ من زرع أو غيره‏.‏ ‏{‏ويَصْرِفُه عمن يشاء‏}‏ أن يصرفه عنه، فينجو من غائلته‏.‏

‏{‏يكاد سَنَا بَرْقِهِ‏}‏ أي‏:‏ ضوء برق السحاب، الموصوف بما مر من الإزجاء والتآلف‏.‏

وإضافة البرق إليه، قبل الإخبار بوجوده، فيه إيذان بظهور أمره واستغنائه عن التصريح به‏.‏ وقيل‏:‏ الضمير للسماء، وهو أقرب، أي‏:‏ يكاد ضوء برق السماء، ويحتمل أن يعود على «الله» تعالى؛ لتقدم ذكره، أي‏:‏ يكاد ضوء برقه تعالى ‏{‏يذهب بالأبصار‏}‏، أي‏:‏ يخطفها من فرط الإضاءة، وسرعة ورودها، ولو عند إغماضها‏.‏ ‏{‏يُقلِّبُ الله الليلَ والنهارَ‏}‏ أي‏:‏ يصرفهما بالتعاقب، فيأتي هذا بعد هذا، أو بنقصِ أحدهما وزيادة الآخر، أو بتغيير أحوالهما بالحر والبرد وغيرهما‏.‏

‏{‏إن في ذلك‏}‏، الإشارة إلى ما فصل آنفاً، أي‏:‏ إن في إزجاء السحاب، وإنزال الودق، وتقليب الليل والنهار، ‏{‏لعبرةً‏}‏؛ لَدَلاَلَةً واضحة على وجود الصانع القديم، القائم بالأشياء، والمدبر لها بقدرته وحكمته، ‏{‏لأُولي الأبصار‏}‏؛ لذوي العقول الصافية‏.‏ وهذا من تعدد الدلائل على ظهور نوره تعالى في الكائنات، حيث ذكر تسبيح مَنْ في السموات والأرض ما يطير بينهما وخضوعهم له، وتسخير السحاب وإنزال الأمطار، وتقليب الليل والنهار، إلى غير ذلك من لوامح الأنوار‏.‏ والله تعالى أعلم وأحكم‏.‏

الإشارة‏:‏ ألم تر أن الله يُزجي سحابَ الواردات الإلهية، تحمل العلوم اللدنية، ثم يُؤلف بينه حتى يكون قوياً، يُقتطع به صاحبه عن حسه، ويغيبه عن أمسه ورسمه، فترى أمطار العلوم اللدنية، والأسرار الربانية، والفتوحات العرفانية، تخرج من خلاله، أي‏:‏ من قلب العارف، وهي نتائج الواردات وثمراتها‏.‏ وفي الحِكَم‏:‏ «لا تزكين وارداً لم تعلم ثمرته، فليس المراد من السحابة الأمطار، وإنما المراد منها وجود الأثمار»‏.‏

وينزل من سماء الأرواح من جبالِ عقولٍ، فيها علم الرسوم الظاهرة، فيصيب به من يشاء، ممن أريد لحمل الشرائع والقيام بها، ويصرفه عمن يشاء، ممن أريد أن يكون من عامة الناس، أو من خاصتهم‏.‏ إن هبت عليه رياح الحقائق، فأمطرت على قلبه العلوم الغيبية فأغنته عن العلوم الرسمية، يكاد سنا برقه الساطع لقلوب أوليائه، وهو سطوع أنوار الملكوت وأسرار الجبروت، فإنها تكون أولاً كالبرق، تلمع وتخفي، ثم يتصل ورودها وشروقها، فتكون متصلة البروق دائمة الشروق، نهار بلا ليل، واتصال بلا انفصال، ووصال بلا انقطاع‏.‏ وفي ذلك يقول القائل‏:‏

طلعت شمسُ مَنْ أُحِبُّ بِلَيْلٍ *** وَاسْتَنَارَتْ، فَمَا تَلاَهَا غُرُوبُ

إنَّ شَمْسَ النهار تَغْربُ بالليل *** وشَمْسَ القُلُوبِ ليْس لَهَا مَغِيبُ

يقلب الله ليل القبض على نهار البسط، ونهار البسط على ليل القبض، حتى يتصل النهار بالخروج عنهما، ليكون لله، لاشيء دونه‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏45‏]‏

‏{‏وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏45‏)‏‏}‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏والله خلقَ كلَّ دابةٍ‏}‏ أي‏:‏ خلق كل حيوان يدب على وجه الأرض ‏{‏من ماء‏}‏؛ من نوع من الماء مختص بتلك الدابة، وهو جزء مادته عند الأطباء، أو‏:‏ من ماء مخصوص، وهو النطفة، ثم خالف بين المخلوقات من تلك النطفة، فمنها أناسي، ومنها بهائم، ومنها هوام وسباع، وهو كقوله‏:‏ ‏{‏يسقى بِمَآءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا على بَعْضٍ‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 4‏]‏ وهذا دليل على أن لها خالقاً مدبراً، وإلاَّ لم تختلف لاتفاق الأصل، وإنما عَرَّفَ الماء في قوله‏:‏ ‏{‏وَجَعَلْنَا مِنَ المآء كُلَّ شَىْءٍ حَيٍّ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 30‏]‏ ونكّرره هنا؛ لأن المقصود ثمَّة أن أجناس الحيوان مخلوقة من جنس الماء، وأنه هو الأصل، وإن تخللت بينه وبينها وسائط، وأما هنا فالمراد نوع منه‏.‏

قالوا‏:‏ إن أول ما خلق الله الماء، فخلق منه النار والريح والطين، فخلق من النار الجن، ومن الريح الملائكة، ومن الطين آدم ودواب الأرض‏.‏ قاله النسفي‏.‏ وعلى الثاني‏:‏ تكون الآية أغلبية؛ لأن مِن الحيواناتِ من يتولد من غير نطفة، كالدود والبَعُوضِ وغيرهما‏.‏

ثم فصّل أحوالهم بقوله‏:‏ ‏{‏فمنهم من يمشي على بطنه‏}‏؛ كالحية والحوت، وتسمية حركتها مشياً، مع كونها زحفاً، استعارة، كما يقال في الشيء المستمر‏:‏ قد مشى هذا الأمر على هذا النمط، او على طريق المشاكلة؛ لذكر الزاحف مع الماشين‏.‏ ‏{‏ومنهم من يمشي على رِجْلين‏}‏ كالإنسان والطير، ‏{‏ومنهم من يمشي على أربع‏}‏ كالبهائم والوحش‏.‏ وعدم التعرض لما يمشي على أكثر من أربع؛ كالعناكب ونحوها من الحشرات؛ لعدم الاعتداد بها، لقلتها‏.‏ وتذكير الضمير في ‏(‏منهم‏)‏؛ لتغليب العقلاء، وكذلك التعبير بكلمة ‏(‏مَن‏)‏‏.‏ وقدَّم ما هو أغرق في القدرة، وهو الماشي بغير آلة، ثم الماشي على رجلين، ثم الماشي على أربع‏.‏

‏{‏يَخْلُقُ الله ما يشاء‏}‏ مما ذكر ومما لم يذكر، بَسيطاً أو مركباً، على ما يشاء من الصور والأعضاء والهيئات والطبائع والقوى والأفاعيل، مع اتحاد العنصر؛ ‏{‏إنَّ الله على كل شيء قدير‏}‏ فيفعل ما يشاء كما يشاء‏.‏ وإظهار الاسم الجليل في الموضعين في موضع الإضمار؛ لتفخيم شأن الخلق المذكور، والإيذان بأنه من أحكام الألوهية‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ أظهر الحق تعالى الأشياء من الماء، وأظهر الماء من نور القبضة، وأظهر القبضة من بحر سر الذات‏.‏ أو تقول‏:‏ أظهر الماء من نور الملكوت، وأبرز نور الملكوت من بحر الجبروت، وبحر الجبروت هو بحر أسرار الذات الأزلية، فالكل منه وإليه، ولا شيء معه، فتنوعت أنوار التجليات، وتعددت أسماؤها بتعدد فروعها، والمتجلي واحد، كما قال صاحب العينية‏:‏

تَجلَّى حَبِيبي في مَرَائِي جَمَالِهِ *** فَفِي كُلِّ مَرْئِيّ لِلْحَبِيبِ طَلاَئِعُ

فَلَمَّا تَبَدَّى حُسْنُه مُتَنَوِّعاً *** تَسَمَّى بِأَسْمَاءٍ فَهُنَ مَطَالِعُ

ولا يفهم هذا إلا من هداه الله لمعرفته‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏46‏]‏

‏{‏لَقَدْ أَنْزَلْنَا آَيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ‏(‏46‏)‏‏}‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏لقد أنزلنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ‏}‏ لكل ما يليق بيانه؛ من الأحكام الدينية، والأسرار التكوينية‏.‏ أو‏:‏ موضحات، أوضحنا بها ما يحتاجون إليه من علم الشرائع والأحكام، ‏{‏والله يهدي من يشاء‏}‏ توفيقه ‏{‏إلى صراط مستقيم‏}‏ أي‏:‏ دين قيِّم يُوصل إلى رضوان الله ومعرفته‏.‏

الإشارة‏:‏ لقد أنزلنا من بحر الجبروت أنواراً ساطعة لعالم الملكوت، والله يهدي من يشاء إلى طريق شهود هذه الأنوار‏.‏ فالطريق المستقيم هي التي تُوصل إلى حضرة العيان، على نعت الكشف والوجدان، وهي ثلاثة مدارج‏:‏ المدرج الأول‏:‏ إتقان الشريعة الظاهرة، وهي تهذيب الظواهر وتأديبها بالسُنَّة والمتابعة‏.‏ والمدرج الثاني‏:‏ إتقان الطريقة، وهي تهذيب البواطن وتصفيتها من الرذائل، فإذا تطهر الباطن، وكمل تهذيبه، أشرف على المدرج الثالث، وهو كشف الحقائق العرفانية والأسرار الربانية فتغطي وجودَ الأكوان‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏47- 50‏]‏

‏{‏وَيَقُولُونَ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ ‏(‏47‏)‏ وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ ‏(‏48‏)‏ وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ ‏(‏49‏)‏ أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ‏(‏50‏)‏‏}‏

يقول الحق جل جلاله في شأن من لم يشأ هدايته إلى صراط مستقيم‏:‏ ‏{‏ويقولون‏}‏ أي‏:‏ المنافقون ‏{‏آمنا بالله وبالرسول‏}‏؛ بألسنتهم، ‏{‏وأطعنا‏}‏ الله والرسول في الأمر والنهي، ‏{‏ثم يتولى‏}‏ عن قبول حُكْمِهِ ‏{‏فريقٌ منهم مِن بعدِ ذلك‏}‏ أي‏:‏ من بعد ما صدر عنهم من ادعاء الإيمان بالله والرسول والطاعة لهما‏.‏

قال الحسن‏:‏ نزلت في المنافقين، الذين كانوا يُظهرون الإيمان ويًسرون الكفر‏.‏

وقيل‏:‏ نزلت في «بِشْر» المنافق، خاصم يهودياً، فدعاه إلى كعب بن الأشْرَف، ودعاه اليهودي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال بشر‏:‏ لا، إن محمداً يحيفُ علينا- قبح الله سعيه‏.‏ وقيل‏:‏ في المغيرة بن وائل، خاصم عليّاً رضي الله عنه في أرض وماء، فأبى أن يتحاكم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ وأيا ما كان فصيغة الجمع تدل على أن للقائل طائفة يساعدونه ويشايعونه في تلك المقال‏.‏

ثم حكم عليهم بالكفر، فقال‏:‏ ‏{‏وما أولئك بالمؤمنين‏}‏ أي‏:‏ المخلصين، والإشارة إلى القائلين‏:‏ آمنا بالله وبالرسول، لا إلى الفريق المتولي منهم فقط، لئلا يلزم نفي الإيمان عنهم فقط، دون مَنْ قبلهم، بخلاف العكس، فإن نفى الإيمان عن القائلين يقتضي نفيه عنهم، على أبلغ وجه وآكده، وما فيه من معنى البعد؛ للإشعار ببُعد منزلتهم في الكفر والفساد‏.‏

‏{‏وإذا دُعُوا إلى الله ورسولِه‏}‏ أي‏:‏ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن حُكمَه حكمُ الله، ‏{‏ليَحْكُمَ بينهم‏}‏ أي‏:‏ ليحكم الرسول بينهم؛ لأنه المباشر للحُكم حقيقة، وإن كان ذلك حكم الله في الحقيقة؛ لأنه خليفته‏.‏ وذكر الله تعالى لتفخيم شأنه عليه، والإيذان بجلالة قدره عنده‏.‏ فإذا دُعُوا إلى التحاكم بينهم ‏{‏إذا فريقٌ منهم مُعْرِضون‏}‏ أي‏:‏ فاجأ فريق منهم الإعراض عن المحاكمة إليه صلى الله عليه وسلم؛ لكون الحق عليهم، وقد علموا أنه صلى الله عليه وسلم يحكم بالحق على من كان‏.‏

‏{‏وإن يكن لهم الحقُّ‏}‏ على غيرهم ‏{‏يأتوا إليه‏}‏؛ إلى الرسول ‏{‏مُذْعنين‏}‏؛ مسرعين في الطاعة، طلباً لحقهم، لا رضاً بحُكم رسولهم‏.‏ قال الزجاج‏:‏ والإذعان‏:‏ الإسراع مع الطاعة‏.‏ والمعنى‏:‏ أنهم؛ لمعرفتهم أنك لا تحكم إلا بالحق المُر والعدل المحض، يمتنعون من المحاكمة إليك، إذا ركبهم الحق، لئلا تنزعه منهم بقضائك عليهم لخصُومهم، وإن ثبت لهم حق على خصم أسرعوا إليك، ولم يرضوا إلا بحكومتك، لتأخذ لهم ما وجب لهم على خصمهم‏.‏

‏{‏أفي قلوبهم مرضٌ‏}‏؛ كفر ونفاق، ‏{‏أم ارْتابُوا‏}‏ في نبوته صلى الله عليه وسلم، ‏{‏أم يخافون أن يَحِيفَ‏}‏؛ أن يجور ‏{‏الله عليهم ورسولهُ‏}‏ فيحكم بينهم بغير الحق‏.‏ قسَّم الحق تعالى الأمر في صدود المنافقين عن حكومته- عليه الصلاة والسلام- إذا كان الحق عليهم ثلاث‏:‏ بأن يكونوا مرضى القلوب منافقين أو مرتابين في أمر نبوته، أو خائفين الحيف في قضائه، ثم أبطل الكل بقوله‏:‏ ‏{‏بل أولئك هم الظالمون‏}‏، أما الأولان؛ فلأنه لو كان شيء منهما لأعرضوا عنه، عند كون الحق لهم؛ لتحقيق نفاقهم وارتيابهم، وأما الثالث؛ فلمعرفتهم بأحواله صلى الله عليه وسلم في الأمان والثبات على الحق، فهم لا يشكون أنه لا يحيف؛ بل لأنهم هم الظالمون، يريدون أن يظلِمُوا من له الحق عليهم، ويتم لهم جحودهم، فيأبَوْن المحاكمة إليه- عليه الصلاة والسلام- لأنه صلى الله عليه وسلم يقضي عليهم بالحق الصريح، المؤيد بالوحي الصحيح‏.‏

الإشارة‏:‏ ترى فريقاً من الناس يدّعون الإيمان والطاعة والمحبة، ونفوسهم غالبة عليهم، فإذا دُعُوا إلى من يحكم بينهم وبينها، بأن يأمرهم بمجاهدتها أو قتلها؛ إذا فريق منهم معرضون، وإن يكن لهم الحق، بأن وجدوا من يدلهم على البقاء مع عوائدها وشهواتها، يأتوا إليه مذعنين‏.‏ أفي قلوبهم شك ووَهْم، أم ارتابوا في وجود الطبيب، أم يخافون أن يحيف الله عليهم‏؟‏ بأن يدلهم على من يتبعهم ولا يبرئهم، حتى حسَّنوا الظن به والتجأوا إليه، فلا يدلهم إلا على من يوصلهم إليه، بل أولئك هم الظالمون لنفوسهم، حيث حرموها الوصول، وتركوها في أودية الشكوك والخواطر تجول‏.‏ قال الورتجبي‏:‏ ‏{‏وإذا دُعُوا إلى الله ورسوله‏}‏ أي‏:‏ دُعوا إلى مشاهدة الله بنعت المحبة والمعرفة، وعبوديته بنعت الإخلاص، ودُعُوا إلى رسوله بالمتابعة والموافقة في الشريعة والطريقة‏.‏ ه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏51- 52‏]‏

‏{‏إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ‏(‏51‏)‏ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ ‏(‏52‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏(‏قول‏)‏‏:‏ خَبَرُ «كَانَ»؛ مُقَدَّمٌ، و‏(‏أن يقولوا‏)‏‏:‏ اسمها؛ مؤخر، وقرأ الحسن‏:‏ بالرفع؛ على الاسمية، والأول‏:‏ أرجح؛ صنَاعةً، والثاني‏:‏ أظهر؛ دلالة، وأكثر إفادة‏.‏ انظر أبا السعود‏.‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏إِنما كان قَوْلَ المؤمنين‏}‏ الصادر عنهم ‏{‏إذا دُعُوا إلى الله ورسولِه ليحكم‏}‏ الرسولُ صلى الله عليه وسلم ‏{‏بينهم‏}‏ وبين خصومهم، سواء كانوا منهم أو من غيرهم، ‏{‏أن يقولوا سمعنا‏}‏ قوله، ‏{‏وأطعنا‏}‏ أمره، ‏{‏وأولئك هم المفلحون‏}‏؛ الفائزون بكل مطلب، الناجون من كل مهرب‏.‏ والإشارة إلى المؤمنين باعتبار صدور القول المذكور عنهم، وما فيه من البُعد، للإشعار بعلو رتبتهم، وبُعد منزلتهم في الفضل، أي‏:‏ أولئك المنعوتون بتلك النعوت الجميلة هم الفائزون بكل مطلوب‏.‏

‏{‏ومن يُطع الله ورسولَه‏}‏، هذا استئناف جيء به لتقرير ما قبله من حسن حال المؤمنين، وترغيب مَن عَدَاهم في الانتظام في سلكهم، أي‏:‏ ومن يُطع الله ورسوله، كائناً من كان، فيما أمَرَا به من الأحكام الشرعية اللازمة والمتعدية، وقيل‏:‏ من يطع الله في فرائضه، ورسولَهُ في سننه‏.‏ ‏{‏ويَخْشَ الله‏}‏ على ما مضى من ذنوبه، ‏{‏ويتَّقه‏}‏ فيما يستقبل من عمره، ‏{‏فأولئك‏}‏ الموصوفون بما ذكر؛ من الطاعة والخشية، والاتقاء، ‏{‏هم الفائزون‏}‏ بالنعيم المقيم، لاَ مَنْ عَدَاهُم‏.‏

وعن بعض الملوك‏:‏ أنه سأل عن آية كافية، فتُليت عليه هذه الآية‏.‏ وهي جامعة لأسباب الفوز‏.‏ قال القرطبي‏:‏ ذكر أسلم‏:‏ أن عمر بينما هو قائم في مسجده صلى الله عليه وسلم فإذا رجل من دهاقين الروم قائم على رأسه، وهو يقول‏:‏ أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، فقال له عمر‏:‏ ما شأنك‏؟‏ قال‏:‏ أسلمت، قال‏:‏ ألهذا سبب‏؟‏ قال‏:‏ نعم؛ إني قرأت التوراة والزبور والإنجيل، وكثيراً من كتب الأنبياء، فسمعت أسيراً يقرأ آية من القرآن، جمع فيها كل ما في الكتب المتقدمة، فعلمت أنه من عند الله، فأسلمت‏.‏ قال‏:‏ ما هذه الآية‏؟‏ قال قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن يُطع الله‏}‏ في الفرائض، ‏{‏ورسولَه‏}‏ في السنن، ‏{‏ويَخْشَ الله‏}‏ فيما مضى من عمره، ‏{‏ويتَّقه‏}‏ فيما بقي، ‏{‏فاولئك هم الفائزون‏}‏؛ والفائز‏:‏ من نجا من النار واُدْخِل الجنة، فقال عمر‏:‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أُعطيتُ جوامع الكلم» ه‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ إنما كان قول المؤمنين الكاملين، الطالبين الوصول إلى حضرة رب العالمين، إذا دُعوا إلى حضرة الله ورسوله؛ ليحكم بينهم وبين نفوسهم التي حجبتهم حتى يغيبوا عنها، أن يقولوا‏:‏ سمعنا وأطعنا، ويدخلوا تحت تربية المشايخ، فإذا أمروهم أو نهوهم، قالوا‏:‏ سمعنا وأطعنا، وأولئك هم المفلحون الفائزون بالوصول إلى الله تعالى‏.‏

ومن يطع الله في أمره ونهيه، ورسوله في سنَّته، وما رغَّب فيه، ويخش الله أن يعاتبه، أو يؤدبه ويتقه أي‏:‏ يجعل وقاية بينه وبيْن ما يحجبه أو يبعده عنه فأولئك هم الفائزون الظافرون بمعرفة الله على نعت الشهود والعيان‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏53- 54‏]‏

‏{‏وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لَا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ‏(‏53‏)‏ قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ‏(‏54‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏(‏جهد‏)‏‏:‏ مصدر مؤكد لفعله، الذي هو حيز النصب على الحال، من فاعل «أقسموا»، ومعنى جَهْدِ اليمين‏:‏ بلوغ غايتها بطريق الإستعارة، من قولهم‏:‏ جهد نفسه‏:‏ إذا بلغ أقصى وسعها وطاقتها‏.‏ وأصل أقسم جهد اليمين‏:‏ أقسم بجهدِ اليمين جَهداً، فحذف الفعل وقدم المصدر، فوضع موضعه مضافاً إلى المفعول، كقوله‏:‏ ‏{‏فَضَرْبَ الرِّقَابِ‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 5‏]‏ وحكم هذا المنصوب حكم حال، كأنه قال‏:‏ أقسموا جاهدين أيمانهم‏.‏ و‏(‏طاعة‏)‏‏:‏ مبتدأ حذف خبره، أي‏:‏ طاعة معروفة أولى من تسويفكم، أو‏:‏ خبر عن محذوف، أي‏:‏ الذي يطلب منكم طاعة معروفة‏.‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏وأَقْسَموا‏}‏ أي‏:‏ المنافقون ‏{‏بالله جَهْدَ أَيمانهم‏}‏ أي‏:‏ بلغوا فيها غاية وسعهم، بأن حلفوا بالله‏.‏ وعن ابن عباس رضي الله عنه‏:‏ ‏(‏من حلف بالله فقد جهد يمينه‏)‏، ‏{‏لئن أمرتهم ليخرجُنَّ‏}‏ أي‏:‏ قالوا‏:‏ لئن أمرنا محمد بالخروج للغزو، أو من ديارنا وأموالنا، لخرجنا‏.‏ وحيث كانت مقالتهم هذه كاذبة ويمينهم فاجرة أمر عليه الصلاة والسلام- بردها حيث قيل‏:‏ ‏{‏قل لا تُقسموا‏}‏ أي‏:‏ قل؛ رداً عليهم، وزجراً عن التفوه بها‏:‏ لا تحلفوا وأنتم كاذبون، ‏{‏طاعةٌ معروفة‏}‏، تعليل للنهي، أي‏:‏ لا تُقسموا على ما تدعون من الطاعة؛ لأن طاعتكم طاعة نفاقية، معروفة بالنفاق، واقعة باللسان فقط من غير مواطأة للقلب‏.‏ وإنما عبّر عنها بمعروفة؛ للإيذان بأن كونها نفاقية مشهور معروف لكل أحد‏.‏ وحملها على الطاعة الحقيقية، على حذف المبتدأ أو الخبر، مما لا يساعده المقام‏.‏ انظر أبا السعود‏.‏

قال القشيري‏:‏ طاعة في الوقت أولى من تسويفٍ في الوعد، ولا تعِدُوا بما هو معلوم أنكم لا تفوا به‏.‏ ه‏.‏ وقال النسفي‏:‏ طاعة معروفة أمثل وأولى بكم من هذه الأيمان الفاجرة‏.‏ أو‏:‏ الذي يطلب منكم طاعة معروفة معلومة لا يُشك فيها ولا يُرتاب، كطاعة الخُلص من المؤمنين، لا أيمان تقسمونها بأفواهكم، وقلوبُكُم على خلافها‏.‏ ه‏.‏

‏{‏إن الله خبير بما تعملون‏}‏ من الأعمال الظاهرة والباطنة، التي من جملتها ما تظهرونه من الأكاذيب المؤكدة بالأيمان الفاجرة، وما تضمرونه في قلوبكم من الكفر والنفاق، والعزيمة على مخادعة المؤمنين، وغيرها من فنون الفساد‏.‏

‏{‏قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسولَ‏}‏، أُمِر- عليه الصلاة والسلام- بتبليغ ما خاطبهم الله به، وصرف الكلام عن الغيبة إلى الخطاب، وهو أبلغ في تبكيتهم، ‏{‏فإِن تولَّوا‏}‏- بحذف إحدى التاءين؛ بدليل قوله‏:‏ ‏{‏وعليكم‏}‏ أي‏:‏ فإن تُعرضوا عن الطاعة إثر ما أمرتكم بها ‏{‏فإِنما عليه ما حُمِّلَ‏}‏ من التبليغ وقد بلَّغَ، ‏{‏وعليكم ما حُمِّلتم‏}‏ من التلقي بالقبول والإذعان‏.‏ والمعنى‏:‏ فإن تعرضوا عن الإيمان فما ضررتم إلا أنفسكم، فإن الرسول ليس عليه إلا ما حمله الله تعالى من أداء الرسالة، فإذا أدى فقد خرج عن عهدة تكليفه‏.‏

وأما أنتم فعليكم ما كلفتم، أي‏:‏ ما أمرتم به من الطاعة والإذعان، فإن لم تفعلوا وتوليتم فقد عرَّضتم نفوسكم لسخط الله وعقوبته‏.‏ قال القشيري‏:‏ قل يا محمد‏:‏ أطيعوا الله، فإن أجابوا، سعدوا في الدارين، وإنما أحسنوا لأنفسهم‏.‏ وإن تولوا؛ فما أضروا إلا بأنفسهم، ويكون اللوم في المستقبل عليهم، وسوف يلقون سوء عواقبهم‏.‏ ه‏.‏

‏{‏وإن تُطيعوه‏}‏ فيما أمركم به من الهدى ‏{‏تهتدوا‏}‏ إلى الحق، الذي هو المقصد الأصلي الموصل إلى كل خير، والمنجي من كل شر، ‏{‏وما على الرسول إلا البلاغُ المبين‏}‏؛ الموضح لكل ما يحتاج إلى الإيضاح، أو‏:‏ البيِّن الوضوح؛ لكونه مقروناً بالآيات والمعجزات المتواترة‏.‏ والجملة مقررة لما قبلها من أن غائلة التولي وفائدة الإطاعة مقصورتان عليهم‏.‏ واللام‏:‏ إما للجنس المنتظم فيه- عليه الصلاة والسلام- انتظاماً أولياً، أو للعهد، أي‏:‏ ما على جنس الرسول كائناً من كان، أو ما عليه- عليه الصلاة والسلام- إلا التبليغ الواضح‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

الإشارة‏:‏ ترى بعض الناس يُقسمون بالله جهد أَيْمَانهم‏:‏ لئن ظهر شيخ التربية وأمرهم بالخروج عن أموالهم وأنفسهم ليخرجن، فلما ظهر تولوا وأعرضوا، فيقال لهم‏:‏ فإن تولوا فإنما عليه ما حُمِّل من الدلالة على الله، والتعريف به، وعليكم ما حُملتم من الدخول تحت تربيته، وإن تُطيعوه تهتدوا إلى معرفة الله بالعيان، وما على الرسول إلا البلاغ المبين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏55- 56‏]‏

‏{‏وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ‏(‏55‏)‏ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ‏(‏56‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏(‏ليستخلفنهم‏)‏‏:‏ جواب لقسم مضمر، أو تنزيل وعْده تعالى منزلة القسم، و‏(‏كما‏)‏‏:‏ الكاف‏:‏ محلها النصب على المصدر التشبيهي، أي‏:‏ استخلافاً كائناً كاستخلافه مَنْ قَبْلَهُمْ‏.‏ و‏(‏ما‏)‏‏:‏ مصدرية‏.‏ و‏(‏ويعبدونني‏)‏‏:‏ حال من الموصول الأول، مقيدة للوعد بالثبات على التوحيد، أو استئنافٌ ببيان مقتضى الاستخلاف، و‏(‏لا يشركون‏)‏‏:‏ حال من واو ‏(‏يعبدونني‏)‏‏.‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏وعد الله الذين آمنوا منكم‏}‏ أي‏:‏ كل من اتصف بالإيمان بعد الكفر من أي طائفة كان، وفي أي وقت وجد، لا من آمن من المنافقين فقط، ولا من آمن بعد نزول الآية الكريمة، بحسب ظهور الوعد الكريم‏.‏ و‏(‏من‏)‏‏:‏ للبيان‏.‏ وقيل‏:‏ للتبعيض، ويراد المهاجرون فقط‏.‏ ‏{‏وعملوا‏}‏ مع الإيمان الأعمال ‏{‏الصالحات‏}‏، وتوسيط المجرور بين المَعْطُوفَيْنِ؛ لإظهار أصالة الإيمان وعراقته في استتباع الآثار والأحكام، والإيذان بكونه أول ما يطلب منهم، وأهم ما يجب عليهم‏.‏

وأما تأخيره في قوله‏:‏ ‏{‏وَعَدَ الله الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات مِنْهُم مَّغْفِرَةً‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 29‏]‏؛ فإن الضمير للذين آمنوا معه صلى الله عليه وسلم؛ فلا ريب أنهم جامعون بين الإيمان والأعمال الصالحة، مثابون عليها، فلا بد من ورود بيانهم بعد نعوتهم الجليلة بكمالها‏.‏

ثم ذكر الموعود به، فقال‏:‏ ‏{‏لَيستخلفنَّهم في الأرض‏}‏ أي‏:‏ لَيجعلهم خلفاء متصرفين فيها تصرف الملوك في مماليكهم، والمراد بالأرض‏:‏ أرض الكفار كلها، لقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «ليدخلن هذا الدين ما دخل الليل والنهار»، ‏{‏كما استخلف الذين مِن قبلهم‏}‏؛ كبني إسرائيل، استخلفهم الله في مصر والشام، بعد إهلاك فرعون والجبابرة، ومَنْ قَبْلَهم مِن الأمم المؤمنة التي استخلفهم الله في أرض من أهلكه الله بكفره‏.‏ كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فأوحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظالمين وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأرض مِن بَعْدِهِمْ‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 13‏]‏‏.‏

‏{‏وليُمَكِّنَنَّ لهم دينَهم‏}‏‏:‏ عطف على ‏{‏ليستخلفنهم‏}‏، داخل معه في سلك الجواب، وتأخيره عنه مع كونه أصل الرغائب الموعودة وأعظمها؛ لأن النفوس إلى الحظوظ العاجلة أميل، فَتصْدير المواعد بها فب الاستمالة أدخل، والمعنى‏:‏ ليجعل دينهم ثابتاً متمكناً مقرراً لا يتبدل ولا يتغير، ولا تنسخ أحكامه إلى يوم القيامة‏.‏ ثم وصف بقوله‏:‏ ‏{‏الذي ارتضى لهم‏}‏، وهو دين الإسلام، وصفه بالارتضاء؛ تأليفاً ومزيدَ ترغيب فيه وفضْلَ تثبيت عليه‏.‏ ‏{‏وليُبدِّلنهُمْ‏}‏ بالتشديد والتخفيف من الإبدال، ‏{‏من بعد خوفهم‏}‏ من الأعداء ‏{‏أمناً‏}‏‏.‏

نزلتْ حيث كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الهجرة عشر سنين، أو أكثر، خائفين، ولَمَّا هاجروا كانوا بلمدينة يُصْبِحُون في السلاح ويُمْسُون فيه، حتى قال رجل‏:‏ ما يأتي علينا يوم نأمن فيه، ونضع السلاح، فلما نزلت، قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «لا تصبرون إلا يسيراً حتى يَجْلِسَ الرجل منكم في الملأِ العظيم، مُحْتبياً، ليس معه حديدة»، فأنجز الله وعده، فأمِنُوا، وأظهرهم على جزيرة العرب، وفتح لهم بلاد المشرق والمغرب، ومزقوا ملك الأكاسرة، وملكوا خزائنهم، واستولوا على الدنيا بحذافيرها‏.‏

وفيه من الإخبار بالغيب ما لا يخفى‏.‏ وقيل‏:‏ الخوف والأمن في الآخرة‏.‏

ثم مدحهم بالإخلاص فقال‏:‏ ‏{‏يعبدونني‏}‏ وحدي، ‏{‏لا يُشركون بي شيئاً‏}‏ أي‏:‏ حال كونهم موحدين غير مشركين بي شيئاً من الأشياء، شركاً جلياً ولا خفياً؛ لرسوخ محبتهم، فلا يُحبون معه غيره، ‏{‏ومن كَفَر بعد ذلك‏}‏ أي‏:‏ بعد الوعد الكريم، كفرانَ النعمة، أو الرجوع عن الإيمان، كما فعل أهلُ الردة، ‏{‏فأولئك هم الفاسقون‏}‏؛ الكاملون في الفسق، حيث كفروا تلك النعمة بعد ظهور عزها وأنوارها، قيل‏:‏ أول من كفر هذه النعمة قتلةُ عثمان رضي الله عنه؛ فاقتتلوا بعد ما كانوا إخواناً‏.‏

والآية أوضح دليل على صحة خلافة الخلفاء الراشدين؛ لأن المستخلَفين الذين آمنوا وعملوا الصالحات على ما ينبغي هم الخلفاء- رضي الله عنهم-‏.‏

ولمّا كان كفر من كفر بعد الوعد إنما كان بمعنى بمنع الزكاة، قرَنَه مع الصلاة في الأمر به فقال‏:‏ ‏{‏وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاةَ‏}‏؛ فمن فرّق بينهما فقد كفر، وكان من الفاسقين‏.‏ ‏{‏وأطيعوا الرسولَ‏}‏ فيما دعاكم إليه وأمركم به، ومن جملة ما أمر به‏:‏ طاعة أمرائه وخلفائه؛ لقوله‏:‏ «عليكم بسنتي، وسنَّة الخلفاء الراشدين من بعدي، عَضُّوا عليها بالنواجذ»، فمن امتنع من دفع الزكاة لخليفته- كما فعل أهل الردة- فقد كفر، ومن أداها إليه كما أمره الله فقد استوجب الرحمة، لقوله‏:‏ ‏{‏لعلكم تُرحمون‏}‏ أي‏:‏ لكي تُرحموا، فإنها من مُسْتَجلبَاتِ الرحمة‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ سنة الله تعالى في خواصه‏:‏ أن يُسلط عليهم في بدايتهم الخَلْقَ، فينُزل بهم الذلَ والفقرَ والخوفَ من الرجوع عن الطريق، ثم يُعزهم، ويُمكن لهم دينهم الذي ارتضى لهم، ويبدلهم من بعد خوفهم أمناً، كما قال الشاذلي رضي الله عنه‏:‏ اللهم إن القوم قد حكمت عليهم بالذل حتى عزوا‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ كلامه‏.‏

قال القشيري‏:‏ وفي الآية إشارة إلى أئمة الدين، الذين هم أركان السُنَّة ودعائم الإسلام، الناصحون لعباد الله، الهادون من يسترشد في الله‏.‏ ثم قال‏:‏ فأما حُفاظ الدين؛ فهم الأئمة والعلماء الناصحون لدين الله، وهم أصناف‏:‏ قومٌ هم حفَّاظُ أخبار الرسول صلى الله عليه وسلم، وحُفّاظُ القرآن، وهم بمنزلة الخزنة، وقوم هم علماء الأصول، الرادُّون على أهلِ العناد، وأصحاب الابتداع، بواضح الأدلة، وهم بطارِقَةُ الإسلام وشجعانُه، وقوم وهم الفقهاء المرجوعُ إليهم في علوم الشريعة وفي العبادات وكيفية المعاملات، وهم من الدين بمنزلة الوكلاء والمتصرفين في المُلْك، وآخرون هم أهل المعرفة وأصحاب الحقائق، وهم في الدِّين كخواص الملك وأعيان مجلس السلطان وأرباب الأسرار، الذين لا يبرحون في عالي مجلس السلطان، فالدين معمورٌ بهؤلاء على اختلافهم إلى يوم القيامة‏.‏ ه‏.‏ تقدم ومثله في قوله‏:‏ ‏{‏فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 122‏]‏‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏57‏]‏

‏{‏لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ ‏(‏57‏)‏‏}‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏لا تحسَبنَّ الذين كفروا مُعْجِزِينَ‏}‏ أي‏:‏ فائتين الله عن إدراكهم وإهلاكهم، في قُطْرٍ من أقطار الأرض، بل لا بد من أخذهم، عاجلاً أو آجلاً، والخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم أو لكل سامع‏.‏ و‏{‏الذين‏}‏‏:‏ مفعول أول، و‏(‏معجزين‏)‏‏:‏ مفعول ثان‏.‏ وقرأ حمزة والشامي بالغيب، و‏(‏الذين‏)‏‏:‏ فاعل، والأول، محذوف، أي‏:‏ لا يحسبن الذين كفروا أنفسهم معجزين ‏{‏في الأرض‏}‏‏.‏ و‏{‏مأواهم النار‏}‏‏:‏ معطوف على محذوف، أي‏:‏ بل هم مُدْرَكُونَ، ‏{‏ومأواهم النار‏}‏ أي‏:‏ مسكنهم ومرجعهم، ‏{‏ولبئس المصيرُ‏}‏ أي‏:‏ والله لبئس المرجع هي‏.‏ وفي إيراد النار، بعنوان كونها مأوى ومصيراً لهم، إثر نفي قوتهم بالهرب في الأرض كل مهرب، من الجزالة ما لا غاية وراءه‏.‏ والله تعلى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ لا تحسبن أهل الانتقاد على أولياء الله أنهم فائتون، بل لا بد من غيرة الله عليهم، عاجلاً أو آجلاً، في الظاهر أو الباطن، ومأواهم نار القطيعة ولبئس المصير‏.‏ وقال القشيري على هذه الآية‏:‏ الباطل قد تكون له صَوْلَةٌ لكنه يختل، وما لذلك بقاء، ولعل لبثه من عارض الشتاء في القيظ، أي‏:‏ الحر‏.‏ ه‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏58- 59‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ‏(‏58‏)‏ وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ‏(‏59‏)‏‏}‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا‏}‏، ويدخل فيه النساء، ‏{‏لِيَسْتَأْذِنكُمُ الذين ملكت أيمانُكُم‏}‏ من العبيد والإماء، ‏{‏والذين لم يبلغوا الحُلُمَ منكم‏}‏ أي‏:‏ والأطفال الذين لم يحتلموا من الأحرار، ‏{‏ثلاثَ مراتٍ‏}‏ في اليوم والليلة، وهي ‏{‏من قبلِ صلاة الفجر‏}‏؛ لأنه وقت القيام من المضاجع، وطرح ما ينام فيه من الثياب، ولبس ثياب اليقظة، وربما يجدهم في هذا الوقت نائمين متجردين، ‏{‏وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة‏}‏؛ وهي نصف النهار في القيظ؛ لأنها وقت وضع الثياب للقيلولة، ‏{‏ومن بعد صلاةِ العشاء‏}‏؛ لأنه وقت التجرد من ثياب اليقظة، والالتحاف بثياب النوم‏.‏ هي ‏{‏ثلاثُ عوراتٍ لكم‏}‏، ومن نصبه؛ فَبَدلٌ من ‏{‏ثلاث مرات‏}‏ أي‏:‏ أوقاتُ ثلاثِ عوراتٍ، وسمى كل واحد من هذه الأوقات عورة؛ لأن الإنسان يختل تستره فيها، والعورة‏:‏ الخلل، ومنه سمي الأعور؛ لاختلاف عينه‏.‏

رُوي أن غلاماً لأسماء بنت أبي مرثد دخل عليها في وقت كَرِهَتْهُ، فنزلت‏.‏ وقيل‏:‏ أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم مُدْلِجَ بنَ عَمرو الأنصاري، وكان غلاماً، وقت الظهيرة، ليدعو عُمر رضي الله عنه، فدخل عليه وهو نائم قد انكشف عنه ثوبه، فقال عمر رضي الله عنه‏:‏ لوددت أن الله تعالى نهى عن الدخول في هذه الساعات إلا بإذن، فانطلق إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فوجده وقد نزلت عليه هذه الآية‏.‏ والأمر، قيل‏:‏ للوجوب، وقيل‏:‏ للندب‏.‏

ثم عذرهم في ترك الاستئذان في غير هذه الأوقات، فقال‏:‏ ‏{‏ليس عليكم ولا عليهم جُناح بعدهنّ‏}‏ أي‏:‏ لا إثم عليكم ولا على المذكورين من المماليك والغلمان في الدخول بغير استئذان بعد كل واحدة من تلك العورات الثلاث، أي‏:‏ في الأزمنة التي بين هذه العورات الثلاث‏.‏

ثم بيّن العلة في ترك الاستئذان في هذه الأوقات بقوله‏:‏ ‏{‏طوَّافون‏}‏ أي‏:‏ هم ‏{‏طوَّافون عليكم‏}‏ لحاجة البيت والخدمة، ‏{‏بعضُكم على بعضٍ‏}‏ أي‏:‏ بعضكم طائف على بعض، أو يطوف على بعض، والجملة‏:‏ إما بدل مما قبلها، أوبيان، يعني‏:‏ أنكم محتاجون إلى المخالطة والمداخلة، يطوفون عليكم للخدمة وتطوفون عليهم للاستخدام، فلو جزم الأمر بالاستئذان في كل وقت لأفضى إلى الحرج، وهو مدفوع بالنص، ‏{‏كذلك يبين الله لكم الآيات‏}‏ أي‏:‏ كما بيّن الاستئذان، يبين لكم غيره من الآيات التي تحتاجون إلى بيانها، ‏{‏والله عليمٌ‏}‏ بمصالح عبادة، ‏{‏حكيم‏}‏ فيما دَبَّرَ وحكم به‏.‏

‏{‏وإذا بلغ الأطفالُ منكم‏}‏ أي‏:‏ الأحرار دون المماليك ‏{‏الحُلُمَ‏}‏ أي‏:‏ الاحتلام، وهو البلوغ، وأرادوا الدخول عليكم ‏{‏فَلْيَستأذِنوا‏}‏ في جميع الأوقات‏.‏ قال القرطبي‏:‏ لم يقل‏:‏ ‏{‏فليستأذنوكم‏}‏، وقال في الأولى‏:‏ ‏{‏ليستأذنكم‏}‏؛ لأن الأطفال غير مخاطبين ولا متعبَدين‏.‏ ه‏.‏ قلت‏:‏ فالمخاطبون في الأولى هم الأولياء بتعليمهم الاستئذان وإيصائهم به، وهنا صاروا بالغين، فأمرهم بالاستئذان ‏{‏كما استأذن الذين من قبلهم‏}‏ أي‏:‏ الذين بلغوا الحُلُم مِن قبلهم، وهم الرجال المذكورون في قوله‏:‏

‏{‏ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 27‏]‏ الآية‏.‏ والمعنى‏:‏ أن الأطفال مأذون لهم في الدخول بغير إذن، إلا في العورات الثلاث، فإذا اعتاد الأطفال ذلك ثم بلغوا الحُلُمَ وَجَبَ أن يُفطَمُوا عن تلك العادة، ويُحملوا على أن يَسْتَأْذِنوا في جميع الأوقات، كالرجال الكبار الذين لم يعتادوا الدخول عليكم إلا بإذن‏.‏

والناس عن هذه غافلون‏.‏ عن ابن عباس رضي الله عنه‏:‏ ثلاث آيات جحدهن الناس‏:‏ الإذن كله، وقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ الله أَتْقَاكُمْ‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 13‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وَإِذَا حَضَرَ القسمة‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 8‏]‏‏.‏ وعن سعيد بن جبير‏:‏ ‏(‏يقولون‏:‏ إنها منسوخة، والله ما هي بمنسوخة‏)‏‏.‏ وعن ابن عباس أيضاً قال‏:‏ إنما أُمروا بها حين لم يكن للبيوت الستر، فلما وجدوا ذلك استغنوا عن الاستئذان‏.‏ وعن أبي محمد مكي‏:‏ هذا الأمر إنما كان من الله للمؤمنين؛ إذ كانت البيوت بغير أبواب‏.‏ قلت‏:‏ أما باعتبار الأجانب فالأبواب تكفي، وأما باعتبار المماليك والأطفال الذين يلجون الدار من غير حَجْرٍ؛ فلا تكفي الأبواب في حقهم، فلا بن من الاستئذان كما في الآية‏.‏

‏{‏كذلك‏}‏ أي‏:‏ مثل ذلك البيان العجيب ‏{‏يُبين الله لكم آياته‏}‏‏.‏ قال ابْنُ عرفة‏:‏ قال قبل هذه وبعدها‏:‏ الآيات، وفي هذه‏:‏ آياته؛ لوجهين، الأول‏:‏ هذه خاصة بالأطفال، وما قبلَها عامة في العبيد والأطفال، فأطلقت الآية، ولم تقيد بالإضافة، وهذه خاصة، فعبّر عنها بلفظ خاص‏.‏ الثاني‏:‏ أن الخطاب بما هنا للبالغين، فأسند فيه الحكم إلى الله تعالى، تخويفاً لهم وتشديداً عليهم‏.‏ ه‏.‏ والمتبادر أنه تفنن‏.‏ قاله المحشي الفاسي‏.‏ ‏{‏والله عليمٌ حكيم‏}‏ فيما أمر ودبر‏.‏

الإشارة‏:‏ إنما أمر الله بالاستئذان لئلا يُكشف السر إلى غير أهله؛ غَيْرَةً منه تعالى على كشف أسرار عباده، وإذا كان غار على كشف سر عبد، فَغَيْرَتُهُ على كشف أسرار ذاته أولى وأحرى، فيجب كتم أسرار الذات عن غير أهله، وكل من خصه الله بسر وجب كتمه إلا على من هو أهل له، وهو من أَعْطَى نفسه وماله، وباعهما لله تعالى‏.‏ وكل من أُطْلِعَ على سر من أسرار الله أو قضاء من قضائه، ثم استشرف أن يُعْلِم الناس بذلك فهو كذاب‏.‏ وفي الحِكَم‏:‏ «استشرافك أن يعلم الخلق بخصوصِيَّتِكَ دليل على عدم صدقك في عبوديتك»‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏60‏]‏

‏{‏وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ‏(‏60‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ «القواعد»‏:‏ جمع قاعد، بغير تاء؛ لأنهما من الصفات المختصة بالنساء، كالطالق والحائض، فلا تحتاج إلى تمييز، وهو مبتدأ، و‏(‏اللاتي‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ إلخ‏:‏ صفة له، ‏(‏فليس‏)‏‏:‏ خبر، وأدخلت الفاء لما في المبتدأ من معنى الشرط من العموم الذي في الألف واللام‏.‏ و‏(‏يرْجُون‏)‏‏:‏ مبني لاتصاله بنون النسوة‏.‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏والقواعدُ‏}‏ أي‏:‏ العجائز ‏{‏من النساء اللاتي‏}‏ قعدن عن الحيض والولادة؛ لِكِبَرِهِنَّ‏.‏ قال ابن قتيبة‏:‏ سمين بذلك لأنهن بعد الكِبَرِ يُكثرن القعود‏.‏ ويقرب منه من فسره بالقعود عن التصرف للكبر، والظاهر أن قوله‏:‏ ‏{‏لا يرْجُون نِكاحاً‏}‏‏:‏ نعت مُخَصِّصٌ، إن فُسِّرَ القعود فيها بالقعود عن الحيض والولد؛ لأنه قد يكون فيها مع ذلك رَغْبَةٌ للرجال‏.‏ وقد يُجْعَلُ كاشفاً؛ إذا فسر القعود باستقذار الرجال لهن من عزوف النفس عنهن، فقوله‏:‏ ‏{‏لا يرجون نكاحاً‏}‏ أي‏:‏ لا يطمعن في رغبة الرجال فيهن، ‏{‏فليس عليهن جناحٌ‏}‏ في ‏{‏أن يَضَعْنَ ثيابَهنّ‏}‏ أي‏:‏ الثياب الظاهرة، كَالجِلْبَابِ الذي فوق الخمار ونحوه‏.‏

قال ابن عطية‏:‏ قرأ ابن مسعود وأُبَيّ‏:‏ «أن يَضَعْنَ مِنْ ثيابهن»‏.‏ والعرب تقول‏:‏ امرأة واضع، للتي كبرت فوضعت خِمَارها، قال في الحاشية‏:‏ والآية صادقة بما إذا دخل أجنبي بعد الاستئذان، وبخروجهن أيضاً، ومن التبرج‏:‏ لبس ما يَصف؛ لكونه رقيقاً، أو‏:‏ شفافاً‏.‏ ه‏.‏

ثم قيَّد الرخصة بقوله‏:‏ ‏{‏غير مُتَبرِّجَاتٍ بزينة‏}‏ أي‏:‏ مظهرات زينة، يريد الزينة الخفية، كالشعر والنحر والساق ونحوه، أي‏:‏ لا يقصدن بوضعهن التبرجَ وإظهارَ مَحَاسنها، ولكن التخفيف‏.‏ وحقيقة التبرج‏:‏ تَكَلُّفُ إِظْهَارِ ما يجب إخفاؤه، من قولهم‏:‏ سفينة بارجة‏:‏ لاَ غِطَاءَ عليها، إلا أنه خص بكشف المرأة زينتها أو محل حسنها للرجال‏.‏ ‏{‏وأن يستعففنَ‏}‏ أي‏:‏ يطلبن العفة عن وضع الثياب، فيتسترن ‏{‏خيرٌ لهن‏}‏ من الانكشاف، ‏{‏والله سميعٌ عليم‏}‏ أي‏:‏ سميع ما يجري بيهن وبين الرجال من المقاولة، عليم، فيعلم مقاصدهن وسرائرهن في قصد التخفيف أو التبرج، وفيه من الترهيب ما لا يخفى‏.‏

الإشارة‏:‏ إذا كمل تهذيب الإنسان وإخلاصه، وكمل استغناؤه بربه، فلا بأس أن يظهر من أحواله وعلومه ما يقتدى به ويُهتدى، ليعلم الانتفاع به‏.‏ فإن خيف منه تهمة فالاستعفاف والاكتفاء بعلم الله خير له‏.‏ والله سميع عليم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏61‏]‏

‏{‏لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آَبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ‏(‏61‏)‏‏}‏

‏{‏لَّيْسَ عَلَى الأعمى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الأعرج حَرَجٌ وَلاَ عَلَى المريض حَرَجٌ وَلاَ على أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُواْ مِن بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَآئِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالاَتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَّفَاتِحهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُواْ جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏ليس على الأعمى حَرَجٌ‏}‏ في الدخول من غير استئذان؛ لأنه لا يتوقع منه نظر لما يكره‏.‏ وكذلك لا حرج عليه فيما لا قدرة له عليه من الجهاد وغيره، ثم استطرد من شاركه في مطلق العذر فقال‏:‏ ‏{‏ولا على الأعْرج حَرَجٌ‏}‏ فيما لا يقدر عليه من الجهاد وغيره، ‏{‏ولا على المريض حرج‏}‏ في ذلك‏.‏ وقال سعيد بن المُسَيِّب‏:‏ كان المسلمون إذا خرجوا إلى الغزو وضعوا مفاتيح بيوتهم عند الأعمى والأعرج والمريض وعند أقاربهم، ويأذنونهم أن يأكلوا من بيوتهم، فكانوا يتحرجون من ذلك، ويقولون‏:‏ نخشى أن تكون نفوسهم غير طيبة بذلك، فنزلت الآية، رُخْصَةً لهم‏.‏ وقيل‏:‏ كانوا يتحرجون من ذلك ويقولون‏:‏ نخشى أن تكون نفوسهم غير طيبة بذلك فنزلت الآية رُخْصَةً لهم وقيل‏:‏ كانوا يتحرجون من الأكل معهم؛ لأن الأعمى لا يبصر الطيب من الطعام، والأعرج لا يستطيع المزاحمة عليه، والمريض لا يستطيع استيفاءه‏.‏ ه‏.‏

‏{‏ولا على أنفسكم‏}‏ أي‏:‏ لا حرج عليكم ‏{‏أن تأكلوا من بيوتكم‏}‏ أي‏:‏ البيت الذي فيه أهل بيتكم؛ أزواجكم وعيالكم، فإذا كان للزوجة أو للولد هناك شيء منسوب إليهما فلا بأس للرجل بأكله؛ لأن الزوجين صارا كنفس واحدة، فصار بيت المرأة بيت الزوج‏.‏ وقيل‏:‏ المراد ببيوتكم‏:‏ بيوت أولادكم، فجعل بيوت أولادهم بيوتهم؛ لأن ولد الرجل من كسبه، وماله كمالِه، لقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «أنت ومالك لأبيك»، ولذلك لم يذكر الأولاد في الآية؛ لاندراجهم في بيوتكم‏.‏

ولا حرج عليكم أيضاً أن تأكلوا من ‏{‏بيوت آبائكم أو بيوتِ أمهاتكم أو بيوتِ إخوانكم‏}‏ الذكور ‏{‏أو بيوت أَخَواتكم‏}‏ النساء، ‏{‏أو بيوت أعمامكم أو بيوت عمَّاتكم أو بيوتِ أخوالكم أو بيوت خالاتكم‏}‏؛ لأن الإذن من هؤلاء ثابت؛ دلالة‏.‏ واختلف العلماء في إباحة الأكل من هذه البيوت المذكورة، فقيل‏:‏ إنه منسوخ وإنه لا يجوز الأكل من بيت أحد إلا بإذنه، والناسخ‏:‏ ‏{‏وَلاَ تأكلوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالباطل‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 188‏]‏، وقوله عليه الصلاة والسلام-‏:‏ «لاَيَحِلُّ مَالُ امْرِىءٍ مسلم إلا عن طِيبِ نَفْسٍ» وقيل‏:‏ محكمة ومعناها‏:‏ إذا أذنوا في ذلك، وقيل‏:‏ ولو بغير إذن، والتحقيق‏:‏ هو التفصيل‏:‏ فمن عُلم منه طيب نفسه وفرحُه بذلك؛ بقرينةٍ‏:‏ حَلَّ أَكْلُ مَالِهِ، ومَنْ لاَ؛ فلا‏.‏

‏{‏أو ما ملكتم مَّفَاتحه‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ وهو وكيل الرجل وقيّمه في ضَيْعَتِهِ وماشيته، له أن يأكل من ثمرة ضيعته، ويشرب مِنْ لبن ماشيته‏.‏

والمراد بملك المفاتيح‏:‏ كَوْنُها في يده وتحت حَوْزِهِ‏.‏ وقيّده ابن العربي بما إذا لم تكن له أجرة، وإن كانت له أجرة على فعله حَرُمَ، يعني‏:‏ إلا إذا علم طيب نَفْسٍ صاحبه؛ فيدخل في الصديق‏.‏ وقيل‏:‏ أريد به بيت عَبْدهِ؛ لأن العبد وما في يده لمولاه‏.‏

‏{‏أو صَدِيقِكُمْ‏}‏ أي‏:‏ أو بيوت أصدقائكم، والصديق يكون واحداً وجمعاً، وهو من يصدقك في مودته وتصدقه في مودتك، يُؤلمه ما يؤلمك ما يؤلمه، ويسرك ما يسره كذلك‏.‏ وكان الرجل من السلف يدخل دار صديقه وهو غائب، فيسأل جاريته كيسَهُ فيأخذ ما شاء، فإذا حضر مولاها أعتقها سروراً بذلك، فأما الآن فقد غلب الشحّ فلا يأكل إلا بإذن‏.‏ قاله النسفي‏.‏

‏{‏ليس عليكم جناحٌ أن تأكلوا جميعاً‏}‏‏:‏ مجتمعين ‏{‏أو أشتاتاً‏}‏‏:‏ متفرقين، جمع شَتّ، نزلت في بني ليث بن عمرو، كانوا يتحرّجُون أن يأكل الرجل وحده، فربما قعد منتظراً نهاره إلى الليل، فإذا لم يجد من يؤاكله من الضيفان أكَل أكْل ضرورة‏.‏ وقيل‏:‏ في قوم من الأنصار كانوا إذا نزل بهم ضيف لا يأكلون إلا مع ضيفهم، فرخص لهم أن يأكلوا كيف شاؤوا‏.‏ وقيل‏:‏ في قوم تحرجوا من الاجتماع على الطعام لاختلاف الناس في الأكل، وزيادة بعضهم على بعض، فخيّرهم‏.‏ وقيل‏:‏ كان الغنى منهم إذا دخل على الفقير من ذوي قرابته وصداقته، ودعاه إلى الطعام، فيقول‏:‏ إني أتحرج أن آكل معك، وأنا غني وأنت فقير، فأباح لهم ذلك‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ ليس على من عَمِيَتْ بصيرتُه، فلم ير إلا الكون حَرج في أن يقف مع رُخَصِ الشريعة، ويتناول كل ما يشتهيه نفسه، مما أباحته الشريعة، من غير تورع ولا توقف ولا تبصر‏.‏ وكذلك المريضَ القلب بالخواطر والأوهام، ومن عَرجت فكرته عن شهود الملكوت، فلا بأس لهؤلاء الضعفاء أن يقفوا مع العوائد والأسباب، ويتناولوا كل ما أباحته ظواهر الشريعة، وأما الأقوياء فلا يأخذون إلا ما تحققوا حِلِّيَّتَهُ، وفهموا عن الله في أخذه وتركه، لفتح بصيرتهم وشدة تبصُّرهم‏.‏

وقال الورتجبي في قوله‏:‏ ‏{‏ليس على الأعمى حرج‏}‏‏:‏ عماه الحقيقي ألا يطيق أن ينظر بطونَ الأزل والغيبَ وغيبَ الغيب‏.‏ وهذا من قوله- عليه الصلاة والسلام- في وصف جمال الحق سبحانه‏:‏ «حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سُبُحَاتُ وَجْهِه ما انتهى إليه بَصَرُهُ مِنْ خلْقِهِ» فجعله معذوراً ألا يدرك حق الحقيقة وحقيقة الحق؛ إذ يستحيل الحَدَثُ أن يحيط بالقدم إن كان واجباً معرفة الكل من حيث الحقوق لا من حيث التوحيد‏.‏ ه ومراده ببطون الأزل‏:‏ تجلياته تعالى، البارزة من وسط بحر جبروته الغيبي، وهي المراد بالغيب وغيب الغيب، فالأكوان كلها برزت من بحر الذات الأزلية والكنز الغيبي، لكنها، لما تجلت، كستها رداء الكبرياء، فمن فتحت بصيرته رأى الحق تعالى فيها، أو قبلها، أو معها، ومن عميت بصيرته لم ير إلا حس الأكوان الظُّلْمَانِيَّةِ‏.‏

والله تعالى أعلم‏.‏

ومذهب الصوفية في تناول متاع بعضهم بعضاً هو ما قال القائل‏:‏ «نَحْنُ‏:‏ لاَ مَالٌ مَقْسُومٌ، وَلاَ سِرٌّ مَكْتُومٌ، فَتَرِكَتُهُمْ لاَ تُقْسَمُ أبداً»‏.‏ دخل الجنيد بَيْتَ بَعْضِ إخوانه، فوجد زوجته، فقال‏:‏ هل عندك شيء نطعم به الفقراء‏؟‏ فأشارت إلى وعاء فيه تمر، لا يملك غيره، فأفرغه على رأسه، فأكلوا، وأخذوا ما بقي، فلما جاء زوجها ذكرت له ذلك، فقال‏:‏ الآن علمت أنه يُحبني‏.‏

ثم أمر بالسلام بعد الاستئذان، فقال‏:‏

‏{‏‏.‏‏.‏‏.‏ فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُواْ على أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ الله مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ الله لَكُمُ الآيات لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ‏}‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏فَإِذَا دخلتم بيوتاً‏}‏ من البيوت المذكورة أو غيرها بعد الإذن، ‏{‏فسَلّمُوا على أنفسكم‏}‏ أي‏:‏ فابدأوا بالسلام على أهلها، الذين هم منكم، الذين هم بمنزلة أنفسكم؛ لما بينكم وبينهم من القرابة الدينية أو النَّسَبِيَّةِ‏.‏ أو بيوتاً فارغة، أو مسجداً، بأن تقولوا‏:‏ السلام عليكم، أو السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، إن كانت خاوية‏.‏ ‏{‏تحيةً‏}‏، مَنْ نَصَبَ فعلى المصدر لِسلِّمُوا؛ لأنها في معنى تسليماً، ‏{‏من عند الله‏}‏ أي‏:‏ بأمره مشروعه من لدنه، أو لأنها طلب للسلامة، وهي بيد الله، ‏{‏مباركةً‏}‏‏:‏ مستتبعة لزيادة الخير والثواب ودوامهما، ‏{‏طيبةً‏}‏‏:‏ تطيب بها نفس المستمع‏.‏

وعن أنس رضي الله عنه أنه- عليه الصلاة والسلام- قال‏:‏ «من لقيت أحداً من أمتي فسلم عليه، يَطُلْ عُمْرُكَ‏.‏ وإذا دخلت بيتك فسلم عليهم يكْثُرُ خَيْرُ بَيْتِك، وصل صلاة الضحى فإنها صلاة الأبرار الأوابين»‏.‏

‏{‏كذلك يُبين الله لكم الآيات‏}‏، تكرير؛ لتأكيد الأحكام المختتمة وتفخيمها، ‏{‏لعلكم تعقلون‏}‏‏:‏ لكي تعقلوا ما في تضاعيفها من الشرائع والأحكام، وتعملوا بموجبها، فتفوزوا بسعادة الدارين‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ السلام على النفس‏:‏ هو طلب الأمان لها ومنها، فإذا سَلِمَت النفس من موجات الغضب من الله، سَلِمَ صاحبها منها، قال القشيري‏:‏ السلامُ‏:‏ الأمانُ، فسبيل المؤمن إذا دخل بيتاً أن يُسلِّمَ مِنَ الله على نَفْسه، يعني‏:‏ بأن يقول السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، وأن يطلب السلامة والأمان من الله تعالى، لِتسْلَمَ نَفْسُه من الإقدام على ما لا يرضي الله، إذ لا يحل لمُسلم أن يفْتُرَ لحظة عن الاستجارة بالله، بأن لا يرفع عنه ظل عصمته بإدامة حِفظهِ من الاتصاف بمكروه الشرع‏.‏ ه‏.‏